القرآن المحفوظ | The immutable quran

موقع علمي يهتم بقضايا القران الكريم وحفظه
An academic website concerned with issues of
the Noble Quran and its preservation

الرد على ياسر قاضي في زعمه أن الصحابة كانوا يقرأون بالتشهي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تكملة لما تقدم من ذكر أدلة ياسر قاضي لما يسميه نظرية الرخصة الإلهية، نسرد هنا ما استدل به من آثار الصحابة بعد أن فشل في إثبات نظريته من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وسيتبين للقارئ قريبًا قلة اهتمام الكاتب في الإتيان بالصحيح من الروايات مع أن استنتاجاته تمس وثاقة أعظم مقدسات الإسلام: كلام الله تبارك وتعالى.

 

ذكر الكاتب مجموعة من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم سنذكرها مع الرد عليها، منها أثر ابن مسعود وقراءة (شجرة الزقوم طعام الفاجر) الذي تقدم ذكره في مقالة أخرى فلا حاجة للتكرار.

 

ثم ذكر الكاتب ثلاثة آثار عن أنس رضي الله عنه، فقال: (وفي حادثة أخرى يُورِدُ الأعمش أنّ أنس بن مالك قرأ: ﴿لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمِزُونَ﴾، والذي في النسخة العثمانية: ﴿لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ [التوبة: 57]، فـ«قيل له: وما يجمزون؟ إنما هي يجمحون؟»، فقال: «يجمَحُون ويجمِزُون ويشتدُّون؛ واحدٌ»، وفي رواية أخرى أنّ أنس بن مالك قرأ: ﴿وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 6] هكذا: ﴿وَأَصْوَبُ قِيلًا﴾. ولـمّا أُخبر أنّ القراءة الصحيحة هي أقوَم، قال: «أقوَمُ وأصوَبُ وأهيَأ؛ واحدٌ»، وقرأ أنسٌ أيضًا فيما رواه أبّان عنه: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: 2]، هكذا: ﴿وَحَطَطْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾. فلمّا سُئل عن هذا، قال: «وضَعْنا وحلَلْنا وحطَطْنا عنك وِزرك؛ سواءٌ. إنّ جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (اقرأ على سبعة أحرف، ما لم تخلِط مغفرةً بعذاب، أو عذابًا بمغفرة)». لاحظ هنا الربط الصريح بين حديث الأحرف والمترادفات اللفظية، مع ذِكْر علّة التسهيل.)

قلت: وهذه الروايات الثلاثة عزاها جميعًا إلى المحتسب لابن الجني الذي لم يذكر أسانيدها.

نبدأ أولًا بالرواية الأخيرة وهي عن أبان عن أنس، وأبان متهم بالكذب،[1] وبعض المحدثين يحسنون الظن فيه فيطعنون في ضبطه.[2] ووجدت للرواية الأولى إسنادًا عن أنس إلا أنها من رواية أبان أيضًا.[3] فهذا حال الأسانيد التي يستشهد بها الكاتب، وإن كانت هذه القراءات في الواقع تحتمل أن تكون جميعها من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ليس في هذه الروايات أن أنسًا رضي الله عنه قرأ بها من باب التشهي.

 

ثم قال الكاتب: في مثال آخر، كان أُبيّ بن كعب يقرأ: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ [البقرة: 20]، هكذا: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَرُّوا فِيهِ﴾، أو: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ سَعَوا فِيهِ﴾، ويعلّق ابن عبد البر، فيقول: «كلّ هذه الحروف كان يقرؤها أُبيّ بن كعب»، مرّة أخرى نجد الألفاظ المترادفة تُستخدم وبدون إسنادها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.

قلت: نقله الكاتب عن ابن عبد البر الذي رواه بإسناد معضل، وهاتان قراءتان، أي: (مروا فيه) و(سعوا فيه) ليستا في الدواوين القديمة بإسناد متصل، فلا يجوز الاستشهاد بها.

ومن الغريب قول الكاتب: (وبدون إسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، وكأن نسبة القراءة إلى أحد الصحابة يدل على عدم كونه من النبي صلى الله عليه وسلم، فجميع من يقول بالقراءة بالتلقي ينسب القراءة إلى من اشتهر بها من الصحابة والقراء العشرة مع جزمهم بأنها من النبي صلى الله عليه وسلم.

 

وفسر الكاتب ما وقع بين ابن مسعود وزيد رضي الله عنهما كدليل على صحة نظريته، فقال: (لاحظ هنا أنّ ابن مسعود -وكلّ صحابي آخر- كان يقرأ بالطريقة الخاصّة به فحَسْب، ولو كان الصحابة يرون هذه المترادفات من الوحي النبوي (حسب نموذج التَّلقين)، لكان من المنطقي أن يتنقلوا بين الكلمات المختلفة وأن يقرؤوا بطرق الصحابة الآخرين، لكنّنا مع ذلك نجد أنّ ابن مسعود عندما تعرّض للضغط للامتثال لحرف الجمع العثماني -كما هو معروف جيدًا وموثّق في العديد من الروايات الصحيحة- رفضَ ذلك، بزعم أنه سمع قسمًا كبيرًا من القرآن مِن فِي النبي -صلى الله عليه وسلم-، بينما كان زيد (الذي كان مكلَّفًا بجمع نصوص عثمان) لا يزال صبيًّا يلعب مع الصبية وله ذؤابتان؛ لذا كان ابن مسعود يفضِّل قراءته الخاصّة لنفسه ولطلابه، وكان يشجّع الآخرين بنشاط على الالتزام بما تعلَّموه من قِبل الصحابة الآخرين.) أ.ه.

قلت: هذه استدلال عجيب واستنتاج محير، فابن مسعود رضي الله عنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فلا يريد أن يجعل بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم واسطة. ولا يخفى على الكاتب معاناة أهل الحديث في طلب العلم وسفرهم من أجل علو الإسناد فقط، فكيف ينزل ابن مسعود بعد أن بلغ القمة؟! وبالنسبة لتلاميذه، فمن يرضى بعد أن قضى السنين في تدريس مجتمع أن يحوَّل تلاميذه إلى غيره؟ هذا ليس طعنًا في زيد بن ثابت ولا في غيره، ولكن هو طبيعة علاقة المدرس وتلاميذه.

ومن أغرب استنتاجات الكاتب أن ابن مسعود رضي الله عنه فضّل قراءته التي اعترتها النسيان وهي مبنية على الإجتهاد والتشهي في نظر الكاتب على قراءة زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي (اقتصر على الألفاظ النبوية.)

قال الكاتب في الهامش: (هذه الروايات وغيرها، تشير إلى أنّ ابن مسعود يُجادل بأنّ ألفاظه (يعني الحرف الخاص به) هي الأكثر صحة. وبالرغم من أنه لم يدّع أن حرف زيد غير صحيح، إلا أنّه كان يفضّل ألفاظه الخاصة. فلا يوجد أيّ اعتقاد بأن جميع الألفاظ نبعت من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ بل إنّ ابن مسعود يُجادل للحفاظ على ألفاظه، حيث إنها (وفقًا لذاكرته) هي الكلمات النبوية الأصلية التي سمعها هو بنفسه مِن فِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أمّا سبب اختيار عثمان لحرف زيد، فالجواب واضح وسيتمّ ذِكره لاحقًا في هذا المقال: فقد اشترط عثمان نسخة فعلية مكتوبة من الوحي قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلقينها بنفسه، بينما اعتمد ابن مسعود على ذاكرته. ودائمًا تُفضّل الوثيقة المكتوبة على التذكّر الشفهي. وممّا يبرِّر اختيار عثمان أنّ ابن مسعود فعلًا كان عند حرفه الخاص به، بخلاف زيد فإنّه لم يختر لنفسه حرفًا بل اقتصر على الألفاظ النبوية.)

قلت: وقوله (وفقًا لذاكرته) إشارة إلى أن ذاكرة ابن مسعود رضي الله عنه خذلته، والله المستعان.

 

ثم ذكر الكاتب أثرًا ليستدل به على أن ابن مسعود رضي الله أحل القراءة بالإجتهاد. قال: (وردَ أنّ ابن مسعود كان ينصح طلابه: «إذا اختلفتم في القرآن في الياء والتاء فذكّروا القرآن؛ فإنّ القرآن مذكِّر»، فلو كانت الصدارة دائمًا لتلقين كلّ حرف (أي نموذج التَّلقين)، لما كان لهذا الأمر أيّ معنى.)

قلت: قبل التوضيح والرد على الكاتب، أود أن أنبه القارئ أن الكاتب نقل الأثر من قسم التفسير من الجامع لابن وهب، والأثر من رواية عاصم عن ابن مسعود، هذا طبعًا منقطع.

وله طرق أخرى، كلها عن داود الأودي عن الشعبي، واختلف عنه، فرواه محمد بن عبيد عنه عن الشعبي عن بسر أو بشير بن الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه جماعة عنه عن الشعبي عن بشير بن الحارث عن ابن مسعود، ورواه عبيد الله بن موسى عن داود الأودي مرفوعًا.[4]

وداود بن يزيد الأودي يكاد يجمع على ضعفه.[5]

وأما المقصود من هذا الأثر، فليس إلى ما ذهب الكاتب، ففيه: (إذا اختلفتم في الياء والتاء)، أصل الاختلاف من السماع، وليس التشهي، (فاجعلوها ياء).

يقول ابن قتيبة: (ووجهه عندي أنه إذا جاء في القرآن حرف يحتمل التأنيث والتذكير فذكّروه. وكذلك كان مذهبه في قراءته. كان يذكّر الملائكة في كل القرآن، فيقرأ: فناداه الملائكة، وإنما قرأها كذلك لأنها ياء متصلة بها في كتاب المصحف على صورة (فناديٰه).)[6]

قلت: وابن قتيبة كما بينا في مقال أخرى يرى أن جميع هذه القراءات من النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون قراءتي (فناداه الملائكة) و(فنادته الملائكة) كلاهما عنده مما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أيضًا رحمه الله: (وكل هذه الحروف كلام الله تعالى، نزل به الروح الأمين، على رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان، بما اجتمع عنده من القرآن، فيحدث الله إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وييسر على عباده ما شاء، فكان من يسيره: أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم.)[7]

والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المصادر:

تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، مؤسسة الرسالة / بيروت، ط1: 1432ه.

تفسير القرآن من الجامع، ابن وهب، دار الغرب / بيروت، ط1: 2003م.

تهذيب التهذيب، ابن حجر، مؤسسة الرسالة / بيروت، ط1: 1429ه.

غريب الحديث، ابن قتيبة، مطبعة العاني / بغداد، ط1: 1397ه.

معرفة الصحابة، ابن منده، جامعة الإمارات / العين، ط1: 2005م.

 

[1] قال ابن حجر: وحكى الخليلي في الإرشاد بسند صحيح أن أحمد قال ليحيى بن معين – وهو يكتب عن عبد الرزاق عن معمر عن أبان نسخة – : تكتب هذه وأنت تعلم أن أبان كذاب؟ فقال: يرحمك الله يا أبا عبد الله، أكتبها وأحفظها، حتى إذا جاء كذاب يرويها عن معمر، عن ثابت، عن أنس، أقول له: كذبت، إنما هو أبان. ينظر: تهذيب التهذيب 1/56.

[2] قال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وهو بين الأمر في الضعف، وأرجو أنه لا يتعمد الكذب، إلا أنه يشبه عليه ويغلط، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق، كما قال شعبة. ينظر: تهذيب التهذيب 1/55.

[3] تفسير القرآن من الجامع لابن وهب 3/51

[4] معرفة الصحابة 1/258

[5] تهذيب التهذيب 1/572-573

[6] غريب الحديث 2/228

[7] تأويل مشكل القرآن ص63


Posted

in

by

Tags: