موقف الطحاوي من الأحرف السبعة

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

نظرا لتمسك جماعة القراءة بالمعنى بكلام الطحاوي وجعلهم إياه إمامًا لقولهم قررت أن أفرد مقالة أتوسع فيها عما سبق في مقالة موقف العلماء من الأحرف السبعة.  وكان السبب لاختيارهم للطحاوي، إسهابه في معنى الأحرف السبعة على عكس بعض من تقدم إذ أن أكثر ممن نُسب له هذا القول الفاسد لا يتعدى كلامه سطرًا أو سطرين. واستفادوا أيضًا غموض بعض كلامه كما سأبينه قريبًا.

 

ما فهمه أهل العلم من كلام الطحاوي

قبل الشروع في ذكر كلام الطحاوي وتحرير موقفه من الأحرف السبعة أذكر هنا باختصار ما وقفت عليه من أقوال المتقدمين والمتأخرين عن موقفه.

قال القرطبي: وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولًا ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستي، نذكر منها في هذا الكتاب خمسة أقوال: الأول وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب والطبري  والطحاوي وغيرهم: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو أقبل وتعال وهلم.[1]

وكلام القرطبي نقله ابن كثير إقرارًا له، وأضاف أن الطحاوي يرى أنها سبع لغات.[2]  

وقال الزركشي عند ذكره لأقوال أهل العلم في الأحرف السبعة:( المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة نحو أقبل وهلم وتعال وعجل وأسرع وأنظر وأخر وأمهل ونحوه وكاللغات التي في أُف ونحو ذلك) ثم نسبه إلى الطحاوي.[3]

قلت: وذكرت سابقًا في مقالة أخرى أن المتقدمين الذين سردوا أقوال أهل العلم في معنى الأحرف السبعة لم يذكروا القراءة بالمعنى فيها، كابن حبان الذي ذكر خمسة وثلاثين قولًا وابن الجوزي والسيوطي، فكيف يغفل جميع هؤلاء العلماء عن موقف الطحاوي من الأحرف السبعة؟

 وأما سبب نسبة هذا القول إلى الطحاوي وأن المقصود بالأحرف الأوجه المتقاربة مع اختلاف المعنى، فكان لأنه عبر عن ذلك بكل صراحة، فقال: (وعقلنا بذلك أن السبعة الأحرف التي أعلمهما – يقصد بذلك عمر وهشام بن حكيم بن حزام – أن القرآن نزل بها هي الأحرف التي لا تختلف في أمر، ولا في نهي، ولا في حلال، ولا في حرام، كمثل قول الرجل للرجل: أقبل، وقوله له: تعال، وقوله له: ادن.)[4]

قلت: وهذا الكلام الواضح الذي اطلع عليه أهل العلم مأخوذ من الفصل الذي يستند إليه القائلون بالقراءة بالمعنى، فيستفاد من ذلك أنهم اطلعوا على هذا كلامه ولم يتوصلوا إلى نتيجة الراجحي ومن تبعه.

 

الرخصة التي ذكرها الطحاوي

إن الأصل في نسبة القول بالقراءة بالمعنى إلى الطحاوي يرجع إلى فقرة ذكر فيها الحكمة من نزول الأحرف السبعة، قال: (وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ ما ينزل عليه من القرآن باللسان الذي ذكرنا على أهل ذلك اللسان وعلى من سواهم من الناس من أهل الألسن العربية التي تخالف ذلك اللسان وعلى من سواهم ممن ليس من العرب ممن دخل في دينه كسلمان الفارسي، وكمن سواه ممن صحبه وآمن به وصدقه، وكان أهل لسانه أميين لا يكتبون إلا القليل منهم كتابا ضعيفا ، وكان يشق عليهم حفظ ما يقرؤه عليهم بحروفه التي يقرؤه بها عليهم، ولا يتهيأ لهم كتاب ذلك وتحفظهم إياه لما عليهم في ذلك من المشقة. وإذا كان أهل لسانه في ذلك كما ذكرنا كان من ليس من أهل لسانه من بعد أخذ ذلك عنه بحروفه أوكد ، وكان عذرهم في ذلك أبسط لأن من كان على لغة من اللغات ثم أراد أن يتحول عنها إلى غيرها من اللغات لم يتهيأ ذلك له إلا بالرياضة الشديدة والمشقة الغليظة، وكانوا يحتاجون إلى حفظ ما قد تلاه عليهم صلى الله عليه وسلم مما أنزله الله عز وجل عليه من القرآن ليقرءوه في صلاتهم، وليعلموا به شرائع دينهم، فوسع عليهم في ذلك أن يتلوه بمعانيه، وإن خالفت ألفاظهم التي يتلونه بها ألفاظ نبيهم صلى الله عليه وسلم التي قرأه بها عليهم، فوسع لهم في ذلك بما ذكرنا.)[5]

قلت: هذا هو النص الذي تناقله الراجحي ومن تبعه ممن قال بالقراءة بالمعنى، وحملوا عليه اختلاف  القراء وإن كانت تختلف في المعنى. وكلام الطحاوي لا يحتمل ذلك، بل لا يخرج عن سياق اللغات. فقد كان سبب المشقة: (من كان على لغة من اللغات، ثم أراد أن يتحول عنها إلى غيرها من اللغات لم يتهيأ ذلك له إلا بالرياضة الشديدة)، ويعلم من له أدنى اطلاع على اختلاف القراء أن القراءات المختلفة في المعنى في المئات، فلا علاقة لها بما ذكره الطحاوي هنا.

ولا أظن أن عاقلًا يقول أن كلمة (مَلِك) شديدة على القارئ فرُخص له أن يقرأ بـ(مالِك)، أو أنه لا يستطيع أن يقرأ: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن) كما في قراءة حفص فوسِّع له أن يقرأ (عند الرحمن) كما قرأها نافع. [الزخرف: 19]

والطحاوي كان صريحًا في الكلمات التي كانت تختلف قليلًا في المعنى، وذكر منها: (فتبينوا)[6] و(فتثبتوا)[7] [الحجرات: 6] و(لنثوينهم)[8] و(لنبوئنهم)[9] [العنكبوت: 58] و(ننشرها)[10] و(ننشزها)[11] [البقرة: 259] وهذه جميعها لا علاقة لها باللغات، ثم قال: (احتمل اختلافهم في الألفاظ بهذه الحروف أن يكون أحدهم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها، فأخذها عنه، كما سمعه يقرأ بها، ثم عرض جبريل عليه السلام عليه القرآن فبدل بعضها، ثم قرأ رسول صلى الله عليه وسلم على الناس القراءة التي رد جبريل عليه السلام ما كان يقرأ منها قبل ذلك إلى ما قرأه عليه بعده، فحضر من ذلك قوم من أصحابه، وغاب عنه بعضهم، فقرأ من حضر ذلك ما قرأ من تلك الحروف على القراءة الثانية، ولم يعلم بذلك من حضر القراءة الأولى، وغاب عن القراءة الثانية، فلزم القراءة الأولى.)[12]

ثم قال: (فمثل تلك الحروف التي ذكرناها، وذكرنا اختلافهم فيها من القرآن على هذا المعنى، وكل فريق منهم على ما هو عليه منها محمود، والقراءات كلها فعن الله عز وجل لا يجب تعنيف من قرأ بشيء منها وخالف ما سواه.)[13]

قلت: وهذا ليس كالنوع السابق الذي وصفه الطحاوي بقوله: (السبعة أحرف هي السبعة التي ذكرنا، وأنها لا يختلف معانيها، وإن اختلفت الألفاظ التي يُتلفظ بها، وأن ذلك كان توسعة من الله عز وجل عليهم لضرورتهم إلى ذلك، وحاجتهم إليه، وإن كان الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما نزل بألفاظ واحدة.)[14]

لاحظ:  النوع الأولى هو يتضمن الأحرف السبعة وأنها مخالفة لما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في الغالب[15] وأن الحكمة من هذه الرخصة إزالة المشقة.[16] وأما النوع الثاني فلا يصفه بالأحرف السبعة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها كلها، سمعها من جبرئيل عليه السلام وأنها كلها من الله تعالى.

 

ولأبي الليث السمرقندي الحنفي تقريرات قريبة مما توصل إليه الطحاوي إذ  يقول: (إن كان لكل قراءة معنى غير المعنى الآخر، فإن الله تعالى قال بهما جميعًا، وصارت القراءتان بمنزلة الآيتين، وإن كانت القراءتان معناها واحد، فالله تعالى قال بإحداهما، ولكنه رخص بأن يقرأ بهما جميعًا).[17]

فرأي أبي الليث قريب من رأي الطحاوي إلا أنهما اختلفا في تحديد الأحرف السبعة، فهي عند أبي الليث تشمل جميع أحرف الرخصة والأحرف المختلفة المعنى، وأما الطحاوي فيرى أن الأحرف السبعة هي أحرف الرخصة فقط وأما الأحرف المختلفة المعنى فهي منزلة ولكن لا تندرج تحت السبعة.

 

تدرج الرخصة

يرى الطحاوي أن التوسعة في الرخصة جاءت على فترات، فعندما ذكر حديث سمرة بن جندب قال: (أنزل القرآن على ثلاثة أحرف)، قال: فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان بين إطلاق عدد له من هذه الحروف أن يقرأ القرآن عليه يعلم ذلك الناس، ويخاطبهم به، ليقفوا على ما كان من رحمة الله عز وجل لهم، وتوسعته عليهم فيهما يقرؤون القرآن عليه، فيسمع سمرة منه الحروف التي كان أطلق حينئذ أن يقرأ القرآن عليها وهي يومئذ ثلاثة أحرف لا أكثر منها، ثم مضى ثم أطلق للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن على أكثر من ذلك إلى تتمة سبعة أحرف.[18]

قلت: وهذا النص من أهم ما يُستدل به في الرد على من نسب إلى الطحاوي القول بالقراءة بالمعنى إذ يثبت أن العدد سبعة حقيقي وأن الرخصة توسعت بالتدريج بعد أن نزل القرآن بلغة قريش ثم شملت لغات القبائل الأخرى. هذا ما يستنتج من كلام الطحاوي عندما شرح وضع القبائل مع لغة قريش ويؤيد كلام من تقدم من أهل العلم الذين فهموا من الطحاوي أن الأحرف هي اللغات.

ثم أنه يستحيل أن يكون المقصود من الأحرف السبعة مجاز للكثرة عند الطحاوي بعد أن أثبت التوسع في الرخصة بالتدريج من أحرف ثلاثة إلى سبعة.

 

شاهد آخر

روى الطحاوي عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلًا كان يكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد قرأ البقرة وآل عمران ، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران قد عد فينا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي عليه: ‌غفورًا ‌رحيمًا، فيكتب: عليمًا حكيمًا، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أكتب كذا وكذا، فيقول: نعم اكتب كيف شئت ، ويملي عليه: عليمًا حكيمًا، فيقول: أكتب: سميعًا بصيرًا، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب أي ذلك شئت فهو كذلك، فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين، وقال: أنا أعلمكم بمحمد، إن كان ليكل الأمر إلي حتى أكتب ما شئت، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الأرض لم تقبله، قال: أنس: فأخبرني أبو طلحة أنه رأى الأرض التي مات بها فوجده منبوذًا، قال: أبو طلحة: ما شأن هذا؟ قالوا: إنا دفناه مرارًا، فلم تقبله الأرض.)

قلت: ثم قال الطحاوي شارحًا لهذا الحديث الذي قد يشعر بجواز القراءة بالمعنى: (الذي في الحديث ليس من ذلك المعنى الذي ذكرناه في ذلك الباب، وذلك أن المعنى الذي ذكرناه في ذلك الباب[19] هو في القرآن لا في غيره، والذي في الحديث الذي ذكرناه في هذا الباب قد يحتمل أن يكون فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمليه على ذلك الكاتب من كتبه إلى الناس في دعائه إياهم إلى الله عز وجل، وفي وصفهم له ما هو جل وعز عليه من الأشياء التي كان يأمر ذلك الكاتب بها، ويكتب الكاتب خلافها مما معناها معناها، إذ كانت كلها من صفات الله.)[20]

قلت: فانظر أيها القارئ كيف لجأ الطحاوي إلى هذا التأويل ابتعادًا من القول بالقراءة بالمعنى، وقد تقدم ما بينّا أن الأحرف السبعة عند الطحاوي هو المرخص الذي لا يختلف في معناه. وبما أن هذه الرواية تفيد استبدال أحد الكتاب المعاني من عند نفسه لجأ الطحاوي إلى انكار أن هذا وقع في القرآن.

 

نهاية الرخصة

قال الطحاوي: (وكانت هذه السبعة للناس في هذه الحروف في عجزهم عن أخذ القرآن على غيرها مما لا يقدرون عليه لما قد تقدم ذكرنا له في هذا الباب، وكانوا على ذلك حتى كثر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.)[21]

قلت: وهذا تأكيد منه أن الرخصة لم تكن إلا بما يتعلق باللغات.

ثم قال: (فقووا بذلك على تحفظ القرآن بألفاظه التي نزل بها، فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤوه بخلافها، وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف، إنما كانت، في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ إلى حرف واحد.)[22]

ثم قال معلقًا على سبب وجود الاختلافات رغم رفع الرخصة أنها وقعت لخلو المصاحف من التنقيط والتشكيل، إلا أن ذلك حجة لأنه من صنيع الصحابة، فلم يُعنف أصحاب القراءات بالرغم من اختلافهم.[23]

 


 

المصادر:

الجامع لأحكام القرآن، القرطبي،  دار عالم الكتب / بيروت، 1428هـ.

فضائل القرآن، ابن كثير، دار المقتبس / بيروت، ط1: 1435هـ.

البرهان في علوم القرآن، الزركشي، المكتبة العصرية / بيروت، 1435هـ.

تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار، الطحاوي، دار بلنسية / الرياض، ط1: 1420هـ.

بحر العلوم، أبو الليث السمرقندي، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1413هـ.

 


 

 

[1]  الجامع لأحكام القرآن 1/42

[2]  فضائل القرآن ص54

[3]  البرهان في علوم القرآن 1/157

[4]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/151

[5]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/148-149

[6]  أي: فافحصوا واكشفوا.

[7]  أي: فتأنوا وتوقفوا.

[8]  أي: لنقيمنهم.

[9]  أي: لننزلنهم.

[10]  أي: نحييها.

[11]  أي: نرفعها.

[12]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/165-167.

[13]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/168.

[14]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/154.

[15]  نقل الطحاوي روايات صريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالرخصة أيضًا. انظر: تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/151-152. 

[16]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/148-149

[17]  بحر العلوم 1/419

[18]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/162-163.

[19]  يقصد بذلك: باب مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: أنزل القرآن على سبعة أحرف.

[20]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/168-170

[21]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/155

[22]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/155

[23]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/166-167


Posted

in

by

Tags: